فواز طرابلسي يكتب عن ايتل عدنان

alrumi.com
By -
0
فواز طرابلسي
[[منح مدير معهد العالم العربي في باريس الكاتبة والشاعرة والرسامة السورية-اللبنانية اتيل عدنان وساما فرنسيا. مساهمتي في تكريم هذه المرأة الاستثنائية الكلمة التي القيتها تكريما لاتيل في بيروت بمبادرة من مسرح المدينة في ١٣ ايار ٢٠١٠]]

سمعتُ اول مرة بإتيل عدنان وانا لا ازال على مقاعد الدراسة عندما فازت في مسابقة للقصة نظمتها مجلة افريكازي. لم اعد اذكر شيئا من قصة اتيل. ولكن، منذ ذلك الحين، وانا مدمن على ادب اتيل وفن اتيل وصداقة اتيل. صداقة اتيل وصداقة رفيقتها الناشرة والفنانة سيمون فتال.
كلما أعجبني نص لاتيل، اترجمه. كثيرا ما تُشبّه الترجمة بالخيانة. مارست ترجمة اتيل بما هي فعل حب ورغبة في الاستحواذ. فكل مترجم يحمل شهوة مكبوته ومراوغة: ان يكون هو مؤلف النص لأنه ألّفه في لغته.
كيف الحديث عن اتيل في ثلاث دقائق؟ وهي سيدة الضغط والتكثيف في القول؟ يتحدث ماياكوفسكي عن الشاعر يصنّع الاف الاطنان من الكلمات لانتاج مفردة شعرية واحدة: ويضيف «ولكن، قارِن قدح شرار/تلك الكلمة/بالاحتراق البطيء للكلام الخام ». تقطّر أتيل الكلام في عملية طبيعية بل جسدية من غير ما جهد منجمي او صناعي. هذا هو قَدْح شرار كلامها: إسمعها تلّخص ساحر الجاز الاميركي ديوك الينغطن بعبارة من خمس كلمات: «انه يحوّل الضجيج الى مُخمل ».
وهي تمارس عملية التقطير ذاتها في الرسم والتصوير. انظر الى لوحاتها الصغيرة الحجم. ليست منمنمات. تضيق رقعة الصورة لتتسع الرؤيا، مع الاعتذار من النفّري.
من كان يتصوّر ان هذا الوجه الطفلي يحمل كل هذا القدر من الدهاء والفطنة والعمق والمثابرة والشجاعة؟
كاتبة ومناضلة نسوية . نسويتها غير المدّعية هي رهافةٌ وقوة معا. لا تتغرغر بأن الانثى هي الاصل. ولا تغريها أصوليات نسوية متفاحلة ومعادية للذكور. تلعب بالاسطورة لعبًا: المرأة هي ما فقده الرجل منذ آدم. والانِثى هي النقصان في الذكر. كأن الرجل يقضي العمر والدهور لاستعادتها. ولعل إتيل ترجع هنا صدى معادلة كارل ماركس الشهيرة التي تقول: إن المرأة هي مستقبل الرجل. لا تكتفي اتيل بهذا. تلتقط اقوى ما في الرجل لتؤنثه. تقبض على الذكر في أضعف حالاته وأجملها: حالة اللذة. ان الرجل إذ يستسلم للذة، يتأنث. واللذة مؤنث لا محالة.
واتيل كاتب ملتزم. بلا تبرير. هي البرهان الحيّ على ان التزام قضايا الحرية والعدالة والمساواة يغني الادب ولا يفقره. بل هو إلتزام قابل لأن يشكل نقلات نوعية في اشكال التعبير والتفكّر والجمالية. لا خطابة ولا حماس ولا ظفرواية هنا. التجربة اغنى وأوجع. فاتيل عدنان ابنة الجيل الذي هزّته هزيمة حزيران ١٩٦٧ وانتشى بانتصار فيتنام ووضع المخيّلة في السلطة مع طلاب وشباب العام ١٩٦٨ ومجّد تشي غيفارا نموذجا للانسان الجديد وإكتوى بالجرح الفلسطيني قبل ان يهلل للفدائي صاحب الكوفية. وهو ذاته الجيل الذي قدّر لبعض منه ان يعيش ليشهد على احتلال الجيش الاسرائيلي لبيروت والغزو الاميركي للعراق. وهو الغزو سجّلته في نصها المدهش بعنوان «في قلب قلب بلد آخر »، حيث يتضافر الحوار والتكرار والابتكار الاسلوبي، لبناء مشهد اليومي من حياة امرأة تعيش «في بطن الوحش » فيما القنابل تنهمر على بغداد.
لعل اتيل اول شاعر عربي ذكّرته مأساة الهندي الاحمر بالانسان الفلسطيني المقتلع والمشرّد والمجمّع في معازل تسمّى مخيمات . لكن بيروت الاحتلال الاسرائيلي، بيروت المقاوَمة، وبيروت الاقتتال الاهلي، وَخَزتها أكثر من اي حدث آخر للابداع. سجلّت ١٩٨٢ شعرا. وفي «ست ماري روز »، إفتتحت النصوص الروائية عن الحرب. وفي رائعتها «سفر الرؤيا العربي » رمّزت الي هزيمة ١٩٦٧ وذاكرة الحروب الاستعمارية والحرب الاهلية اللبنانية بالصراع بين شمس وقمر. «الشمس بركة دم » تقول وتردف «شاهدتُ بيروتَ المجنونة تكتب بالدم: الموت للقمر ». «سفر الرؤيا العربي » نص متفرّد في النتاج الادبي عن الحروب اللبنانية قررت الشاعرة فيه ان تتحدى اللغة بواسطة الحرب. والحربَ بواسطة اللغة. فككت اللغة الشعرية تفكيكا، لتتشظى مثل انفجار قنبلة او تخلع بيت او تطاير اشلاء. إمعانا في التحدي، خلطت اتيل الكلام برسوم ورموز وتعاويذ في هيروغليفية تقول عجز اللغة امام هول المأساة.
هذه المرأة التي «تفضّل الموج علي البحر»، وجهت رسالة الى الشعراء تقول:
«ايها الشعراء، غيّروا العالم او إذهبوا الى بيوتكم! »
رسالة التحدي هذه موجهة الى جميع من ينتج في الادب والفن والفكر.
إتيل، وانت لم توجدي الا للحب، تعرفين كم احبك.
هذه مناسبة اخرى لتتعرفي على الكثيرين الذين يحبونك ويقدّرون موهبتك ونبلك وشجاعتك.

اتمنى لك الحب المديد.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)