Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

عنّي وعن مهندين آخرين

مهند الحاج علي الهولنديون يسمونها “نام غينوت”. رحلة البحث عن أناس يحملون أسماءنا، ومعها قصص كثيرة. الفارس ترسترام في ملحمة...






مهند الحاج علي

الهولنديون يسمونها “نام غينوت”. رحلة البحث عن أناس يحملون أسماءنا، ومعها قصص كثيرة. الفارس ترسترام في ملحمة الشاعر البريطاني ألغرنون سوينبورن، يجد فارساً على شواطئ بريتاني الفرنسية يحمل اسمه، قبل أن ينطلقا لمواجهة الأعداء. “ولكن على ضفاف البحر حيث في الضحى قد يجدهم خصومهم، يوجد فارسان يحملان اسمي. أحدهم مريض بحزن القلب والأرق، والآخر قلبه مليء بالأمل وظافر كالشمس”. هكذا قاتل الرجلان تحت الإسم ذاته، وكأنها هوية. لكن ماذا في الإسم؟
في رواية “نايمسايك” للكاتب جومبا لاهيري، يخوض غوغول صراعاً مع اسمه بصفته هوية مفروضة عليه. هو أميركي المنشأ، وأهله مهاجرون من شرق آسيا. الإسم قصة هوية. غوغول اختار اسماً آخر وتزوج بعيداً عن أصوله، لكنه عاد إليه وكأن الاسم قدر.

لطالما كان اسمي معضلة حقيقية، نادر الوجود. هذا كان طبعاً قبل الدبلجة السورية للمسلسلات التركية.

كانت تراودني فكرة تغييره كثيراً خلال مراهقتي، إذ كُنت كلما عرّفت عن نفسي، عاجلني السائل بـ”شو؟” مُستنكرة. شركات التأمين كانت تكتبه “محمد”، وكذلك فعلت جامعتي على إحدى الإفادات. لم يشفع شعر زهير بن أبي سلمى، ولا ولع ذكورية المراهقة بالسيف، في إقناعي بـ”مهند”. لم يكن الاسم كله قابلاً للهضم. الحل كان بتغييره. أخبرني عمّي عن أحد معارفه ممن ترجموا أسماءهم في بريطانيا. إنه محمد جنيناتي الذي تحول إسمه إلى مايك غاردنر.

راودتني الفكرة قليلاً إلى أن التقيت “أبو فراس”، العامل الدرعاوي عند أحد أقاربي في بيروت. “الاسم محبوب عندنا في درعا”، قال حينها. درعا في مخيلتي المراهقة لم تكن سوى تلك الأرض القاحلة التي نعبرها في الطريق الى عمّان حيث تُقيم خالتي. بقيت كذلك حتى انطلقت الثورة السورية من درعا.

يومها صادفت اسمي على صفحة للثورة. “الافراج عن مهند الحاج علي”. شعرت برغبة قوية بلقاء هذا المناضل الذي يحمل اسمي. لكن، وفيما بدأت البحث عبر موقع “فايسبوك”، وقعت على صفحة درعاويَّين يحملان الاسم ذاته. هكذا تعرفت الى اثنين مهند الحاج علي بدلاً من واحد كنت أبحث عنه.

الأول مناضل مطارد من النظام. عمره ٢٨ عاماً. يعيش في خربة غزالة ملاحقاً من النظام. لا يستقر اليوم في مكان واحد بالقرية. ابن عائلة “مثقفة”، “ونشأت بمحافظة درعا وترعرعت فيها”. درس الكيمياء في كلية العلوم بدمشق حتى السنة الرابعة، “واضطر لتركها لدواع أمنية”. كان بين المشاركين الأوائل في الثورة، وتحديداً في التظاهرات الجامعية. علاقة الدرعاويين بالثورة لا تخلو من عصبية عمادها أنهم أول من أطلقوها. “أكلت نصيبي من الضرب”، يقول، لكن مهند لم ييأس “فشاركت بتظاهرات الميدان وحي المجتهد”.

“سقط الخوف منذ ذلك اليوم”، يروي. “ومنذ ذلك اليوم أيضاً، تساورني رغبة شديدة بإكمال ما بدأناه”. لم يكن مشوار الثورة عادياً، ترك الجامعة وفقد اهتماماته العادية، حتى الحُب! أعجبته فتاة مرّة، “فقط أعجبتني”. لم يقو على الحب ربما في زمن الاستثناءات والتقلبات. كما “ازددت تديناً خلال الثورة لأن النصر من عند الله”. ازداد حبه لسوريا “بعد ما شفت الشباب كيف نفضوا غبار الذل بعد سنوات من الخنوع والخضوع”.

سألته إذا خربة غزالة “بلدة رستم غزالة”. أجاب أنها “قرية الشهيد محمود الزعبي رئيس مجلس الوزراء سابقاً. قاتل مهند فيها لفترة وجيزة في صفوف “الجيش الحر”. “دخلها جيش العهر وشبيحته البارحة فحرقوا ودمروا وسرقوا ونهبوا كل شيء. منذ البارحة وحتى اللحظة، لا تزال سحب الدخان تتصاعد منها … فيها وقعت معركة جسر حوران التي استمرت ٦٤ يوماً … وسقطت خربة غزالة”. السبب هو “نقص الذخيرة وتخاذل المجلس العسكري في درعا عن مد الثوار بالعتاد والعدة”.

هنا، ترك مهند الحديث. يبدو أن الوقت حان للعودة لحياة من الهروب والخطر والبطولة، فهو كما قال، “عرف معنى الحرية فعشقها أكثر من أي شيء”.

الثاني، مراهق عمره ١٤ عاماً. درس في خربة غزالة، وترعرع مع والديه فيها. والده سائق شاحنة بين سوريا والكويت. في سوريا، قبل الثورة، “كنت سعيداً لا اهتم بما حولي. أُحب الجميع، لا أكره شيئاً حيث كان الناس هناك يحنون على بعضهم بعضاً”.

أما عندما جاءت الثورة، “كان الجيش الأسدي يخيفني ويخيف كل طفل وهم يظنون انهم يضحكوننا ويلعبون معنا ولكننا رأينا منهم كل شيء مخيف”.

عندما اندلعت الثورة وبدأت الاضطرابات، نقل الوالد العائلة بأسرها الى عمّان. “بعدما أصبحنا نازحين، أصبحنا حزينين. لا نعرف مَن حولنا هل يحبنا أمّا لا. حتى الآن حائر ولا أعرف الاجابة ولم أعد طفلاً، أصبحت شاباً أعمل كي أساعد أهلي، فهذا ما مررت به”.

مهند واجه الحقيقة المُرَّة. وهو يسير في أحد شوارع عمّان، أعجبه موبايل، استحى أن يتحدث الى والده، جمع مالاً من العمل في مخبز ثم فرن ثم سوبرماركت، واشتراه. كان يحلم بأن يكون طياراً. “كان”؟ نعم، كان. لم يعد طفلاً بل بات لاجئاً وعاملاً.

لا يلعب في أزقة الخربة اليوم، بل يعمل وفي أوقات فراغه، يزور الجرحى السوريين وبينهم أقارب له في العاصمة الأردنية، أو يُتابع أخبار سوريا عبر “فايسبوك”.

انتهى الحديث مع شبيهيّ الإسم، لم يخلُ من الغرابة. لا حيز مشتركاً بيننا إلا الاسم. شعرت لوهلة بأنه أكثر من عنوان، بل هوية.

لإسمي اليوم قصص كثيرة. وأيضاً أمنية من بيروت، بالخلاص والحرية لشاب في خربة غزالة ولاجئ فقد طفولته في عمّان.

ليست هناك تعليقات