الصُّورةُ ليستْ واضحةً أَبداً، أَنفخُ علَيْها بِفَمي وأُعِيدُ مسحَها بِكُمِّ قَميصي، ولكنْ دونُ جَدوى. صبيٌّ صغيرٌ ربَّما في العاشرةِ ...
الصُّورةُ ليستْ واضحةً أَبداً، أَنفخُ علَيْها بِفَمي وأُعِيدُ مسحَها بِكُمِّ قَميصي، ولكنْ دونُ جَدوى. صبيٌّ صغيرٌ ربَّما في العاشرةِ من عُمرهِ أَو أَكثرَ، يمسكُ بثوبِ أُمِّهِ التي تجلسُ قربَ حائطٍ طينيٍّ يوشكُ على الانهيارِ، لماذَا تقفُ الأُمُّ بصحبةِ طفلِها هناكَ لاَ أَعرفُ، أَبحثُ عنْ جوابٍ، فأَتعثَّرُ بأَسئلةٍ أُخرى، فأَهربُ مجدَّداً إِلى الصُّورةِ، الصُّورةِ التي ليستْ واضحةً أَبداً.
في الزَّاويةِ الأُخرى منَ الصُّورةِ، رجلٌ بِملامحَ قاسيةٍ، يَبدو عليهِ التَّعبُ حتَّى الإِنهاكِ، نِصفهُ في الصُّورةِ ونِصفهُ الآخرُ خارجَها، أَبحثُ عنِ النِّصفِ الآخر بِلا جدوَى، الصُّورةُ ليستْ واضحةً أَبداً.
بنتٌ صغيرةٌ، أَو نصفُ قمرٍ، تمسكُ بيدَي أَبيها، الذي نِصفهُ في الصُّورةِ وبحثتُ عن نصفهِ الآخر بِلا جدوَى، ثمَّةَ دموعٌ تسيلُ على خدِّها الأَحمر، مثلَ تفَّاحةٍ ناضجةٍ تحتَ شمسِ أَيلُول، لماذَا تَبكي البنتُ؟ ولماذَا لاَ تقولُ الأُمُّ شيئاً؟ ولماذَا يصمتُ الأَبُ العصبيُّ جدًّا؟ ولماذَا ينظرُ إِليها أَخُوها؟ لاَ أَعرفُ، الصُّورةُ ليستْ واضحةً أَبداً.
دَويُّ محرِّكِ سيارةِ شيفروليه قديمةٍ، مُوديل1957، يبتعدُ ويقتربُ، ربَّما تصعدُ السيَّارةُ وتنزلُ منحدراتٍ، ينزلُ الرُّكابُ واحداً تلوَ الآخر، أُحاولُ أَنْ أَعرفَ أَبي بينَهُم، أَشمُّ رائحةَ عَرقهِ، وأَرى تجاعيد على جَبينِ رجلٍ يشبِههُ تماماً، يقتربُ الرَّجلُ الذي يقفُ مثلَ غريبٍ منَ البيتِ الطِّينيِّ، هلْ هوَ أَبي؟ لاَ أَعرفُ.. الصُّورةُ ليستْ واضحةً أَبداً.
شامةٌ على خدِّها الأَيمن، أَحلى من شامةِ حبيبةِ حامد بدر خان، تتكلَّمُ بكُرديَّةٍ صافيةٍ، وتتأَلَّقُ في ثوبٍ مُزركشٍ، ملوَّنٍ بالأَزهارِ والحَجلِ وطيورٍ بعيدةٍ، ترفعُ فنجانَ قهوتِها العربيَّةِ، وبحركةٍ بسيطةٍ ومُتقَنةٍ تكرعُ ما في الفنجانِ دفعةً واحدةً، هلْ هيَ صبحيَّةُ بنتُ أَسود، جدَّتي، التي خطفَها جدِّي الكُرديُّ نايفكو من أَطرافِ جبلِ عبدِ العزيزِ بعدَ أَن رفضَ أَهلُها تزويجَها من كرديٍّ طائشٍ، يشربُ العرق،َ ويلعبُ القِمارَ في كازينوهات حلب وبيروت، ويضاجعُ العاهراتِ التُّركيَّاتِ في إِسطنبولَ؟ هلْ هيَ جدَّتي؟ لاَ أَعرفُ.. الصُّورةُ ليستْ واضحةً أَبداً.
أَقتربُ منَ البيتِ، البيتِ النَّائمِ قربَ قُبورٍ كثيرةٍ، لاَ أَعرفُ تحديدَ مَنْ نامَ قربَ مَنْ، أَدخلُ على رُؤوسِ أَصابِعي، وأَبكِي بصمتٍ كيْ لاَ يسمعُوا نَشيجِي ويبكُوا مَعي، أَقتربُ منَ البابِ الذي لمْ يَعدْ يَعرفُني، أَقتربُ منَ الصُّورةِ أَكثرَ، لمْ يَعدِ البابُ باباً، ممرٌّ كبيرٌ مسيَّجٌ بحجارةٍ ميتةٍ وأَزهارٍ ميتةٍ، ونهارٍ ميتٍ، وآمالٍ كثيرةٍ ميتةٍ أَيضاً، أَقتربُ أَكثرَ فأَكثرَ منَ الصُّورةِ، لاَ أَرى شيئاً، أَسمعُ دويَّ رصاصةٍ طائشةٍ، ودمٌ يسيلُ منَ الكادرِ، أَفركُ عينيَّ لأَرى الصُّورةَ أَكثرَ، ولكنْ لاَ أَرى شيئاً غيرَ الدَّمِ يسيلُ بقوَّةٍ منَ الذِّكرياتِ ومنَ الصُّورةِ.. الصُّورةِ التي ليستْ واضحةً أَبداً.
ينظرُ الموتُ إِليَّ، ولاَ أَنظرُ إِليهِ، أَبحثُ عنِ الموتَى، عنِ القُبورِ، عنِ العشبِ الأَصفرِ، عنِ عُيونٍ ظلَّتْ تَرقبُ الطريقَ بينَ كَفر سبي وكرصور نحوَ القامِشلي البعيدةِ، ترتجفُ الصُّورةُ، مثلَ مَنْ ينظرُ إِلى نفسهِ في مرآةِ سيَّارةٍ قديمةٍ انطلقتْ بسرعٍة على طريقٍ تُرابيَّةٍ. ترتجفُ الصُّورةُ أَكثرَ، تغيبُ، لمْ أَعُدْ أَرى شيئاً، غيرَ دُموعي، أَينَ هيَ الصُّورةُ.. الصُّورةُ التي ليستْ واضحةً أَبداً؟
أَتعبُ في البحثِ عنِ الصُّورةِ، أَصعدُ إِلى التَّلِّ الواقفِ، يقفُ منذُ حياتَيْنِ ولاَ يتعبُ، أُظلِّلُ عينيَّ بيديَّ، لاَ أَرى شيئاً سِوى مَدينةٍ بعيدةٍ أَو ربَّما تشبهُ مدينةً يلفُّ جغجغُ يدَهُ حولَ خصرِها، هلْ يحاولُ النَّهرُ تقبيلَها أَم اغتصابَها أَم جرَّها من شعرِها إِلى بيت الطاعةِ؟
أَتعبُ ولاَ أَصلُ إِلى شيءٍ، أُعِيدُ النَّظرَ في الصُّورة بشهوةِ مَنْ ينظرُ إِلى امرأَةٍ عاريةٍ خلفَ جدارٍ زُجاجيٍّ سميكٍ .. ولكنَّ الصُّورةَ ليستْ واضحةً أَبداً.
أَهبطُ من كرصور، تاركاً موتايَ ينظرونُ خَلفي
بأَلمٍ
بِحيرةٍ
أَسمعُ نحيبَهم، وأَمضي إِلى المدينةِ
يلتفتُ إِليَّ المطارُ
تلتفتُ الأَشجارُ والشَّوارعُ
تلتفتُ السيَّاراتُ والبيوتُ
يلتفتُ التُّرابُ
تلتفتُ إِليَّ هليليكي، ومحمقية، وجركين، وتل فارس، والعنترية، وقدوربك
لكنَّ قامشلو تديرُ وجهَها عنِّي..
· من مجموعة صدرت للتو بعنوان "غريب/ كل لا شيء عنك في ويكيليكس"
ليست هناك تعليقات