Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

" مانوكان"(*) لبثينة سليمان

الحياة في المخيم سجن كبير، لا يمكن لي تصور حياة تختلف عن هذه الحياة، بين الأزقة التي يغطيها الرمل نتنقل بخفة نتشارك بناتا وأولادا اللع...


الحياة في المخيم سجن كبير، لا يمكن لي تصور حياة تختلف عن هذه الحياة، بين الأزقة التي يغطيها الرمل نتنقل بخفة نتشارك بناتا وأولادا اللعب، الرمل الذي يغطي كل شيء ملاذنا للعب، نتنقل بين البيوت المتجاورة والمتلاصقة نتلصص على النساء وهن يحضرن الطعام، نقترب من الدكاكين ولا نشتري شيئا. نرى تلك الأوراق الملونة تلمع بألوان زاهية تخفي ألواحاً من البسكويت والشوكولا وحبات الملبس الكبيرة. ننتظر الأعياد كي نحصل على شيء منها.

يفصل بين دارنا والدكان ممر طويل وَضيق تغطيه الرمال البحرية، الشاطىء ليس ببعيد لكنه عالم آخر، نقف عند باب الدكان الضيق تتجمع النسوة يتخاطبن بأصواتهن العالية لا يدارين شيئا من خصوصية، تخرج أصوانهن حادة بلهجات مختلفة ومتقاربة. سمة الصوت أكثر ما أثر في حياتنا اللاحقة،لأنه أخذ شكل الطائرة وقوة حجم القذيفة وأزيز الرصاصة. باب الدكان واجهتنا على عالم من المعلبات وأنواع قليلة من الأجبان والبيض الذي كان يوضع فوق طاولة اختفى لونها الأخضر وحل محله طبقة من الأوساخ ملساء صنعتها أيادي أهل المخيم، الشاي، الصابون الشامبو، شامبو داني بغالونات ملونة. أحيانا يكون ضجيجنا أعلى وعيوننا المسمرة على العالم من خلال بضاعته أكثر صخبا من حديث النسوة اللواتي ينهرننا بأصواتهن الحادة، وبشتائمهن. على أن طفولتنا وبراءتنا تشفع لنا وتحمينا من سلاطة لسانهن. ننحاش بعيدا مثقلة مخيلتنا بأشكال الجبنة وحبات الزيتون الداكنة. لم نعرف أن ثمة كنوز مخبئة في تلك الرمال. تلك التي تعود إلى آلاف السنين وتلك التي خرجت من الدكان. نبحث في الرمل عن غلف ألواح الشوكولاته اللامعة والملونة وأغطية قناني الكولا، نجمعها لنلعب بها. كانت لعبتي المفضلة حيث أجلس في ظل شجرة الإزدرلخت أجعل من أغطية القناني كنبات ومن علب السجائر الفارغة أسرّة لعرائس أصنعها من أعواد الثقاب، ألفُّ عود الثقاب بقطعة من غلف الشوكولاتة الملونة فتصبح لعبتي جميلة، أقتطع جزءا أقل بلون آخر لأجعله شالاً يلف عنق عروسي. وهكذا تصبح لدي عائلة من العرائس بملابس متنوعة، أكثر ما يسليني تلك الغلف التي كان أخي محمود يجمعها لي. كانت أمي تحفظ لي علب أحذية الأعياد لأجعلها بيوتا لعرائسي. لكن اللعبة الحقيقية التي حصلت عليها كان وقت عيد، أدهشني جمالها، شعرها الأشقر جُعل في ضفيرتين، عيناها زرقاوان ولها رموش تتحرك، كلما وضعتها في حضني أغمضت جفنيها لتنام. فستانها من القماش الملون بنقوش ورود صفراء حمراء. أما حذؤها من البلاستيك. لعبتي جميلة وطيبة، جاء لي عمي بهذه اللعبة ليخلصني من حزني بسبب فستان العيد الذي صنعته ليلى الخياطة. كان واسعا وفضفاضا، أكمامه مزمومة على نحو يضيّق على معصميّ. كان فستانا بشعاً، رأيت بنات المخيم يرتدين فساتين ألوانها فاقعة ومنقطة ولها كشاكش جميلة. حملت لعبتي وتفاخرت بها على صديقاتي، حينها تخليت عن أعواد الثقاب وغلف ألواح الشوكولاته. أنا أملك لعبة ، أجمل لعبة رأتها عيون بنات المخيم في ذلك العيد .

عصر ذلك النهار شعرت بألم أسفل بطني، ألم جعلني أتقيأ، صرخت عمتي بأمي "خذيها إلى الطبيب، وجهها أصفر، تتركين البنت تموت وأنت تتفرجين عليها"، ترد أمي ببرود" اليوم عيد ولا عيادة مفتوحة" هالني كلام عمتي وتذكرت أبي. تخيلت نفسي إلى جانبه في القبر. أمي لم تعد  تزوره. أبي نائم في القبر وأنا إلى جانبه أرى وجهه ولا أنام. حملت وجهي بين كفي وأنا انتحب، بكائي يخنقني. انتظرت أمي أن تحتضنني كي تخفف من خوفي ومن ألمي، شعرت أن الموت دخل بين فخذي ليجرني بعيدا عن أمي، وما بقع الدم التي تبقع بها سروالي سوى علامات الموت.

همست لي أمي أن أعتدل و أشرب ماء القصعين، ثم قالت لي "لا تخافي، هذه دورتك الشهرية، عندما تشربين ماء القصعين ستشعرين بتحسن. على عبارتها "دورتك الشهرية" لم تضف شيئا، وأصبح موعدي مع إشارات موتي يتكرر في كل شهر. لكنها علمتني كيف ألف قطع القماش البيضاء وأضعها في سروالي الداخلي. عرفت من صديقاتي أمورا كثيرة لم تخبرني بها أمي لكنني حافظت على الصمت وقد تخلصت من هاجس الموت الذي رافقني شهورا. عدا ذلك الألم الذي كان يصاحب مجيء دورتي وخوفي من تبقع ملابسي لم يتغير علي شيء، وعلى الرغم من تعليقات عمتي الثقيلة ورغبتها بمنعي من اللعب كما يفعل أبناء وبنات سني، حافظت على وهج الطفولة الذي خفف من كآبة الشتاء بين جدران الدار ومنحني إحساسا زائفا بالحرية. لم يمنعني هذا الدفق من الدم أن أمارس ألعابي وأن أظل أنتمي إلى ذلك العالم السحري وألعابه. ظللت أكافح بروز نهدي، أرتدي ملابس  فضفاضة حتى تحول دون بروزهما. بروز بدا مفاجئا ومؤلماً. حملت طفولتي معي كأنني أحتفظ بها لأيام اللهو الطويلة في الساحات الترابية، ألهو مع بنات المخيم، نلعب وقتا طويلا، نبني بيوتا ودكاكين، نمارس ألعابنا في الرمل.

 حين أسمع صوت جدي ثانية يهمس لي أدخل غرفته قبل موته، أستمهله قليلا أن يسمع حكاياتي، أخبره عن الأرق وعن الفراغ الذي حفر مكانه بين ضلوعي وعن ذلك النهار الذي جاءنا فيه جنود الاحتلال. وعن انكماش جلدي كلما استبد بي شوق أو رغبة لا أعرف كيف ألبيها. أودعه حياتي مثل رماد أنثره هنا وهناك. أصير أسمع حكايتي وأنا أنظر في وجه الطفلة البريئة في داخلي.

قالت عمتي سنذهب إلى السوق في مدينة صور ونشتري ملابس جديدة. نذهب إلى محل للملابس الداخلية. البائع صاحب العينين الزرقاوين يقف مرحبا بعمتي، محل له واجهة تقف خلفها مانوكان بملابس داخلية، كلسون من قماش الدانتيل القطني أسود اللون، اطرافه مكشكشة بخيوط من الفضة، يكاد لا يغطي شيئا من جسدالعارضة.أما الصدرية المصنوعة من القماش الشفاف تظهر الصدر البلاستيكي دون حلمات كتلك التي أمتلكها. بدا جسدا حقيقا واقفا في مواجهة العالم. المانوكان التي تركت ملابسها ووقفت، تركت عيناها تغيبان في البعيد، لم أدقق في ملامح وجهها بل كنت مشغولة بعريها أحاول أن أرى جسدي في جسدها حراً طليقا يبهر عيون العابرين رجالاً ونساء. لون زهري يخالطه الحليب يقابله جسدي الأسمر الداكن لا يكشف تفاصيل كتلك التي يكشفها هذا الجسد المصنوع من البلاستيك. بادلتها ابتسامة باهتة وتخيلت نفسي هناك أنتظر عيون المارين ليتجدد معنى وجودي. خلف البائع صفت علب الكرتون التي طبعت عليها صور لموديلات كلاسين متنوعة وملونة، كلها لا تخفي ذلك الأسود الذي باغتني بانطلاقه دون رأس يكمله أو ساقين يقف عليهما، إنه هناك، ليس واحدا بل عانات كثيرة تزينت بقطع صغيرة من أقمشة خفيفة شفافة، تكاد لا تخفي شيئا. كلاسين ليست كالتي تخيطها لي ليلى الخياطة، تغطي السرة وتلف الوركين.حين أصير عروسا مثل آمنة سأشتري من هذه الملونة هكذا فكرت. يعرض البائع على عمتي صدريات جديدة مقاس تسعون د. تفضل عمتي قياسها وتجريبها  تتركني وتغيب في غرفة جانبية. يواجهني الرجل بعينيه الزرقاوين وأنا في مواجهة العانات الغريبة. يخاطب البائع عمتي ويتشاوران في قياس صدريتي، يطلب مني أن اقترب لاختار ما يناسبني. أصمت. أتخلى عن مواجهتي للعانات. يفتح العلب وهو يثرثر مع عمتي، لكنه يقول لها بأن ابنة أخيها محظوظة بحجم صدرها. يقصدني وهو يتفحص جسدي بعينين حارتين. أنسى العانات وأنسى العارضة الحرة في عرض جسدها، أشعر بصدري ثقيلا وبأن غياب عمتى طال وأن ما تقوله عينا الرجل شيئا لا أريده. تخرج عمتي وقد اختارت صدرية سوداء. لم أشتر شيئا ذلك النهار. أخافني الرجل وشغل بالي حجم نهدي. بات يؤرقني وجودهما. أقف في مواجهتهما، أرسم إطار علبة كرتونية وأتخيل نهدي مطبوعين على واحدة من تلك العلب الصغيرة وعلى كل علبة لون وموديل صدرية أحلى. نترك صاحب العينين الزرقاوين ونسير في السوق ندخل نوفوتيه الأناقة. تقول عمتي "صرت صبية" أنظر في المرآة، وأفهم ماذا تعني "بصرت صبية"، يعجبني قميصا مقلما باللونين البنفسجي والأبيض يضيق حول خصري يغطي وركي، أختار بنطلونا واسع الأطراف، لونه زهري، يعجبني مظهري الجديد، القميص المقلم يخفي صدري وهذا ما أشعرني بالراحة. كل ما أريد ارتداءه أريده يخفي صدري الضخم الذي أشعر به يتورم ويكبر. أحيانا أنتهز فرصة غياب أمي. فأتعرى. صدرية كبيرة من القطن تغطيه، أخلعها ببطء لتبرز استدارة نهدي كاملين. تنتصب الحلمتان الداكنتان. حجم صدري يفيض عن حجم كفي، يكون دافئا، أضغطه بأصابعي فيريحني الضغط، يجتاحني إحساس غريب وينفصل داخلي. وأنا أتلصص على جسدي أدقق في التفاصيل سرعان ما أتذكر أن أمي قد تأتي في أية لحظة. أدور حول نفسي وأنظر في المرآة، يقول البائع بحماسة أنها فصّلت لأجلي. أسمعه يقول بأن جسدي جميل وتليق به البناطيل. عرض علينا موديلات مختلفة. لا فساتين بعد اليوم. أقول لنفسي. عمتي تفاصل في السعر وأنا أحكم قبضتي على كيس النايلون الذي طبع عليه اسم المحل. نخرج عائدتين إلى المخيم نعبر الزقاق المعتم ،"تأخرنا" تتمتم عمتي وأنا أقبض على الكيس ، اسمع خشخشة ناعمة، هذه الملابس الجديدة، غيرت شكلي، أخفت سمنتي وجعلتني أبدو فتاة أحبها. غدا أكوي شعري فيصبح ناعما مسترسلا على كتفي مثل شعر رفيقتي آمنة. إنه عرس آمنة.آمنة نحيفة وهزيلة لا أرى لها صدراً. ستكون عروسا بلا  صدر وبلا عريس. عريسها في ألمانية. جاء أخوها في الصباح وأخذ كراسي الخشب من دارنا استعدادا للعرس. صديقتي ستسافر إلى ألمانية عروسا. أخبرتني أنها خائفة. مثل خالتي ألطاف لأن رجلا اقتحمها دون إرادتها. لكن آمنة عروس وعريسها ابن عمها. لم أفهم سبب الخوف. خالتي خافت من تلك النظرات الغريبة وتلك الملامسات التي كانت تخرسها. خالتي لم تكن عروسا. كانت جميلة وكانت تشبه أمي. "جسدها أكبر وأكثر امتلاء". هذا ما ذكرته أمي عن أختها. "لو أنك تملكين شيئا من جمالها". تقول أمي وهي تسرح شعري المتجعد. أقول لها في سري " لا أريد جمالها ولا حظها ولا أن يرى أحداً صدري" إحساس غريب ممزوج بلذة غامضة كان  يجتاحني كلما لامستُ صدري وكلما سنحت لي فرصة أن أراه في المرآة، لم تتعد تلك المشاعر هذه المنطقة من جسدي. ظلت حدوده السفلى مظلمة بعيدة عن النور، عالم جزئي الأعلى يموج برغباته أما عالم جزئي الأسفل فنائم، بعيد عن تلك الأحاسيس، تتعاقب دوراته بانتظام، يؤدي وظائفه بصمت ودون إثارة. أملك صدرا كبيراً ورثته عن عمتي. ماذا تفعل عمتي بنهديها؟ أفكر أن مرآتها صغيرة جدا لن ترى اتساعهما. قالت لي آمنة "سيحشون صدرها بالقطن". لبست فستانا أبيض استأجرته، كان ذيله متسخا. جلست وسط حلقة من النساء، وجهها ملون، عيناها محددتان بكحل أسود عريض. شعرها الأملس رفع وضم إلى الخلف حيث لفته طرحة طويلة لامست الأرض. من بعيد كان صدرها المحشو بالقطن بارزاً. كانت صامتة وعيناها حائرتين. لبست القميص البنفسجي وتركت شعري على كتفي. أمضيت الصباح في كيه ليستقيم إلى أسفل كتفي. آمنة خائفة لأن إحداهما أخبرتها قصصا عن ليلة زفافها. لم تخبرني شيئا لكنني عرفت. عرفت لأن الحكايات في المخيم لا تعيش طويلا في السر، تنتقل من لسان إلى لسان وما سمعته ذلك النهار حرك جزئي النائم وصار لحكايتي بقية.


                                   

(*) جزء من نص طويل ينشر بالاتفاق مع المؤلفة





ليست هناك تعليقات