مهند الحاج علي - صحيفة السفير بعد أكثر من عقدين على نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، ما زال المجتمع المدني اللبناني قادراً على ملاحق...
مهند الحاج علي - صحيفة السفير
بعد أكثر من عقدين على نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، ما زال المجتمع المدني اللبناني قادراً على ملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم في حرب أوقعت أكثر من 150 ألف قتيل و17 ألف مفقود. فعلى رغم أن مطلب المحاسبة يراوح مكانه من دون حراك أو استقطاب واسعين منذ نهاية الحرب، إلا أن أساليب الناشطين تطورت عالمياً، وباتت تحمل آفاقاً واعدة بالنسبة للبنان. هذا المقال ينظر في وسيلتين أساسيتين للمحاسبة، هما الولاية القضائية العالمية (للمحاكم المحلية في الخارج)، والتحقيقات المستقلة.
منذ النهاية الرسمية للحرب الأهلية اللبنانية العام 1990، نمت العدالة الدولية بخطى متسارعة على وقع المجازر الأهلية في البلقان ورواندا وسييراليون. كانت المحطة الأولى المحكمة الجنائية ليوغوسلافيا العام 1993 ومن ثم محكمة رواندا العام 1994، والتوقيع على اتفاقية روما لانشاء المحكمة الجنائية الدولية العام 1998، وصولاً إلى تأسيس المحكمتين الخاصتين بسيراليون العام 2002 وبلبنان العام 2005. هذا الاهتمام المستجد فتح شهية ناشطين على المحاسبة في دول شهدت جرائم أقدم وقعت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ولا سيما في أميركا اللاتينية. السؤال المستجد كان: هل في إمكان منظمات المجتمع المدني ملاحقة المتهمين بالجرائم التي وقعت قبل إقرار القواعد الجديدة للعدالة الدولية؟
الجواب على هذا السؤال طفى على السطح العام 1998، عندما سافر الدكتاتور التشيلي أوغستو بينوشيه الى بريطانيا لتلقي العلاج. بعد أيام على وصوله، وتحديداً في 17 تشرين الأول (أكتوبر)، اعتقلت السلطات البريطانية بينوشيه بناء على مذكرة دولية أصدرها القاضي الاسباني بلتثار كورازون، لتسجل بذلك سابقة في تاريخ القانون الدولي. غالبية جرائم بينوشيه وقعت خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وكانت خاضعة حينها لقوانين عفو محلية. وهاتان صفتان تنطبقان على جرائم حرب لبنان. بعد 16 شهراً من المعارك القانونية، وفي ظل ضغوط أميركية واحتجاجات حكومة التشيلي، قرر مجلس اللوردات البريطاني في آذار (مارس) العام 1999 بأن في الامكان محاكمة بينوشيه على جرائم تعذيب وقعت بعد العام 1988، وهو تاريخ اقرار معاهدة حظر التعذيب في بريطانيا. إلا أن وزير خارجية بريطانيا حينها جاك سترو، واستجابة للضغوط الأميركية، قرر إرسال بينوشيه الى بلاده بحجة تدهور حالته الصحية. وبالتالي، عاد الأخير في الثالث من آذار (مارس) الى بلاده المنقسمة بين مؤيد ومعارض لمحاكمته. وعلى رغم انتصاره في معركته البريطانية، وحصوله بعد أيام من وصوله على حصانة برلمانية في التشيلي، أعطى اعتقاله في لندن زخماً لحملة ناجحة لمحاسبته عبر القضاء المحلي.
توفّر هذه التجربة الناجحة لمنظمات المجتمع المدني في ملاحقة بينوشيه، نموذجاً يُحتذى للبنان. معاهدة حظر التعذيب لعام 1984، والتي أقرتها 147 دولة، تفتح نوافذ للملاحقة القانونية في الخارج لمتهمين لبنانيين بجرائم حرب، لكنها محصورة بالجرائم الواقعة بعد تاريخ اقرارها في الدولة المعنية التي يزورها المتهم.
على سبيل المثال، لو زار متهم بجرائم تعذيب في لبنان، فرنسا التي أقرت المعاهدة الآنفة الذكر في 18 شباط (فبراير) العام 1986، فإن في امكان ضحايا تعرضوا للتعذيب بعد هذا التاريخ رفع دعوى، وبالتالي البدء بإجراءات قضائية قد تؤدي في حال توافر الشهود، للإعتقال الفوري. وقائمة الدول الموقعة على هذه المعاهدة، طويلة، وتشمل دولاً أوروبية مهمة مثل سويسرا (1986) التي يزورها بعض المتهمين للاستجمام وتفقّد ودائعهم المتراكمة في المصارف، ودولاً افريقية مثل تونس (1988) والسنغال (1986) وآسيوية كتركيا (1988). المجال واسع ومفتوح أمام منظمات المجتمع المدني، وقد يكون حتى منخفض الكلفة في ظل وجود جمعيات خيرية أسسها محامون وقضاة ناشطون في البلدان الأوروبية، علاوة على امكانية التعاون مع منظمات حقوقية مثل «العفو الدولية» وغيرها.
هذه الوسيلة تستهدف مجموعة من المتهمين بالجرائم، وتحديداً المتورطين في ما ارتُكب منها بعد منتصف الثمانينيات، أي في نافذة زمنية ضيقة رغم أهميتها. بيد أن الجرائم الكبرى في الحرب الأهلية اللبنانية مثل مجازر الذبح على الهوية، والتطهير العرقي المتبادل ومجازر الحصار والاغتصاب وخطف الآلاف، وقعت قبل هذا التاريخ. هنا يأتي دور الوسيلة الثانية، وهي انشاء تحقيق مستقل في هذه الجرائم يجريه خبراء دوليون من قضاة ومحامين معروفين دولياً، على أن يخرج على شكل تقرير لتقصي الحقائق. تكمن أهمية مثل هذا التحقيق في التبعات السياسية له، ولا سيما أن الإتهامات ستوجه إلى أفراد وكيانات ميليشيوية بالأسماء والتفاصيل، وفي الامكان تحويلها إلى مرجع لكتابة التاريخ مستقبلاً من وجهة نظر الضحية وليس الجلاد.
وبين التبعات السياسية أيضاً، بروز التقرير كمرجع أو وثيقة تُبقي الاتهامات حاضرة أينما حلّ صاحبها، ولا تزول إلا بمحاكمة. وقد يتحول إلى ورقة ضغط في أيدي منظمات المجتمع المدني ضد أي مسؤول دولي يرغب في لقاء المتهم أو استقباله كي يعدل عن ذلك، بما يفرض حصاراً خانقاً ربما يؤول، ولو في زمن لاحق وبعيد، إلى تطهير الطبقة السياسية من أمراء الحرب والمتهمين بجرائم، والتأسيس لثقافة المحاسبة ودولة القانون. كما إن من شأن مثل هذا الاتهامات، وخصوصاً أنها تأتي من طرف أجنبي محايد، تبديد الهالات التاريخية والاعلامية المحيطة ببعض الشخصيات السياسية الراحلة والحية، بما قد ينعكس سلباً على ظاهرة التوريث السياسي.
وعلى صعيد الكيانات الحزبية المتورطة في الحرب، سيترك هذا التحقيق الواسع أثراً عميقاً في سمعتها، في حال وصمها بجرائم خطيرة، وبالتالي إحراجها محلياً ودولياً، أو لتبرئتها مما لصق بها من اتهامات خلال الحرب.
على المجتمع المدني، رغم قلّة إمكاناته قياساً بالريع الاقليمي لطرفي الطبقة السياسية، الإضطلاع بمسؤولياته للدفع باتجاه تعزيز المطالبة بالمحاسبة واستنفاد الوسائل المتاحة أمامه، وذلك قبل أن تحيلنا دوامات الصراعات المتجددة والمتفلتة من العقاب، ركاماً من جديد.
ليست هناك تعليقات